الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين} قوله تعالى{ارجعوا إلى أبيكم} قاله الذي قال{فلن أبرح الأرض}. }فقولوا يا أبانا إن ابنك سَرَق} وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين }إن ابنك سُرِّقَ} النحاس: وحدثني محمد بن أحمد بن عمر قال حدثنا ابن شاذان قال حدثنا أحمد بن أبي سريج البغدادي قال: سمعت، الكسائي يقرأ{يا أبانا إن ابنك سُرِّق} بضم السين وتشديد الراء مكسورة؛ على ما لم يسم فاعله؛ أي نسب، إلى السرقة ورمي بها؛ مثل خونته وفسقته وجرته إذا نسبته إلى هذه الخلال. وقال الزجاج{سرق} يحتمل معنيين: أحدهما: علم منه السرق، والآخر: اتهم بالسرق. قال الجوهري: والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق، والمصدر يسرق سرقا بالفتح. قوله تعالى{وما شهدنا إلا بما علمنا} يريدون فقد شهدنا قط إلا بما علمنا، وأما الآن فقد شهدنا بالظاهر وما نعلم الغيب؛ كأنهم وقعت لهم تهمة من قول بنيامين: دس هذا في رحلي من دس بضاعتكم في رحالكم؛ قال معناه ابن إسحاق. وقيل المعنى: ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من دينك؛ قاله ابن زيد. }وما كنا للغيب حافظين} أي لم نعلم وقت أخذناه منك أنه يسرق فلا نأخذه. وقال مجاهد وقتادة: ما كنا نعلم أن ابنك يسترق ويصير أمرنا إلى هذا، وإنما قلنا: نحفظ أخانا فيما نطيق. وقال ابن عباس: يعنون أنه سرق ليلا وهم نيام، والغيب هو الليل بلغة حمير؛ وعنه: ما كنا نعلم ما يصنع في ليلة ونهاره وذهابه وإيابه. وقيل: ما دام بمرأى منا لم يجر خلل، فلما غاب عنا خفت عنا حالاته. وقيل معناه: قد أخذت السرقة من رحله، ونحن أخرجناها وننظر إليها، ولا علم لنا بالغيب، فلعلهم سرقوه ولم يسرق. تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها؛ فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا، فلا تسمع إلا ممن علم، ولا تقبل إلا منهم، وهذا هو الأصل في الشهادات؛ ولهذا قال أصحابنا: شهادة الأعمى جائزة، وشهادة المستمع جائزة، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة؛ وكذلك الشهادة على الخط - إذا تيقن أنه خطه أو خط فلان - صحيحة فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به وإن لم يشهده المشهود عليه؛ قال الله تعالى اختلف قول مالك في شهادة المرور؛ وهو أن يقول: مررت بفلان فسمعته يقول كذا فإن استوعب القول شهد في أحد قوليه، وفي القول الآخر لا يشهد حتى يشهداه. والصحيح أداء الشهادة عند الاستيعاب؛ وبه قال جماعة العلماء، وهو الحق؛ لأنه قد حصل المطلوب وتعين عليه أداء العلم؛ فكان. خير الشهداء إذا أعلم المشهود له، وشر الشهداء إذا كتمها والله أعلم، إذا أدعى رجل شهادة لا يحتملها عمره ردت؛ لأنه ادعى باطلا فأكذبه العيان ظاهر. {واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون} قوله تعالى{واسأل القرية التي كنا فيها والعير} حققوا بها شهادتهم عنده، ورفعوا التهمة عن أنفسهم لئلا يتهمهم. فقولهم{واسأل القرية} أي أهلها؛ فحذف؛ ويريدون بالقرية مصر. وقيل: قرية من قراها نزلوا بها وامتاروا منها. وقيل المعنى }واسأل القرية} وإن كانت جمادا، فأنت نبي الله، وهو ينطق الجماد له؛ وعلى هذا فلا حاجة إلى إضمار؛ قال سيبويه: ولا يجوز كلم هندا وأنت تريد غلام هند؛ لأن هذا يشكل. والقول في العير كالقول في القرية سواء. }وإنا لصادقون} في قولنا. في هذه الآية من الفقه أن كل من كان على حق، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه، ويصرح بالحق الذي هو عليه، حتى لا يبقى لأحد متكلم؛ {قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم} قوله تعالى{قال بل سولت} أي زينت. }لكم أنفسكم} أن ابني وما سرق، وإنما ذلك لأمر يريده الله. }فصبر جميل} أي فشأني صبر جميل أو صبر جميل أولى بي على ما تقدم أول السورة. الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل، والرضا والتسليم لمجريه عليه وهو العليم الحكيم، ويقتدي بنبي الله يعقوب وسائر النبيين، صلوات الله عليهم أجمعين. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: ما من جرعتين يتجرعهما العبد أحب إلى الله من جرعة مصيبة يتجرعها العبد بحسن صبر وحسن عزاء، وجرعة غيظ يتجرعها العبد بحلم وعفو. وقال ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى{فصبر جميل} أي لا أشكو ذلك إلى أحد. قوله تعالى{عسى الله أن يأتيني بهم جميعا} لأنه كان عنده أن يوسف صلى الله عليه وسلم لم يمت، وإنما غاب عنه خبره؛ لأن يوسف حمل وهو عبد لا يملك لنفسه شيئا، ثم اشتراه الملك فكان في داره لا يظهر للناس، ثم حبس، فلما تمكن احتال في أن يعلم أبوه خبره؛ ولم يوجه برسول لأنه كره من إخوته أن يعرفوا ذلك فلا يدعوا الرسول يصل إليه وقال{بهم} لأنهم ثلاثة؛ يوسف وأخوه، والمتخلف من أجل أخيه، وهو القائل{فلن أبرح الأرض}. }إنه هو العليم} بحالي. }الحكيم} فيما يقضي. {وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم} قوله تعالى{وتولى عنهم} أي أعرض عنهم؛ وذلك أن يعقوب لما بلغه خبر بنيامين تتام حزنه، وبلغ جهده، وجدد الله مصيبته له في يوسف فقال{يا أسفا على يوسف} ونسى ابنه بنيامين فلم يذكره؛ عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: لم يكن عند يعقوب ما في كتابنا من الاسترجاع، ولو كان عنده لما قال{يا أسفا على يوسف} قال قتادة والحسن: والمعنى يا حزناه! وقال مجاهد والضحاك: يا جزعاه!؛ قال كُثَيِّر: والأسف شدة الحزن على ما فات. والنداء على معنى: تعال يا أسف فإنه من أوقاته. وقال الزجاج: الأصل يا أسفي؛ فأبدل من الياء ألف لخفة الفتحة. }وابيضت عيناه من الحزن} قيل: لم يبصر بهما ست سنين، وأنه عمي؛ قال مقاتل. وقيل: قد تبيض العين ويبقى شيء من الرؤية، والله أعلم بحال يعقوب؛ وإنما ابيضت عيناه من البكاء، ولكن سبب البكاء الحزن، فلهذا قال{من الحزن}. وقيل: إن يعقوب كان يصلي، ويرسف نائما معترضا ببن يديه، فغط في نومه، فالتفت يعقوب إليه، ثم غط ثانية فالتفت إليه، ثم غط ثالثة فالتفت إليه سرورا به وبغطيطه؛ فأوحى الله تعالى إلى ملائكته{انظروا إلى صفيي وابن خليلي قائما في مناجاتي يلتفت إلى غيري، وعزتي وجلالي! لأنزعن الحدقتين اللتين التفت بهما، ولأفرقن بينه وبين من التفت إليه ثمانين سنة، ليعلم العاملون أن من قام بين يدي يجب عليه مراقبة نظري}. هذا يدل على أن الالتفات في الصلاة - وإن لم يبطل - يدل على العقوبة عليها، والنقص فيها، قال النحاس: فإن سأل قوم عن معنى شدة حزن يعقوب - صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا - فللعلماء في هذا ثلاثة أجوبة: منها - أن يعقوب لما علم أن يوسف صلى الله عليه وسلم حي خاف على دينه، فاشتد حزنه لذلك. وقيل: إنما حزن لأنه سلمه إليهم صغيرا، فندم على ذلك. والجواب الثالث: وهو أبينها - هو أن الحزن ليس بمحظور، وإنما المحظور الولولة وشق الثياب، والكلام بما لا ينبغي وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال: ذهبت عيناه من الحزن }فهو كظيم} قال: فهو مكروب. وقال مقاتل بن سليمان عن عطاء عن ابن عباس في قوله{فهو كظيم} قال: فهو كمد؛ يقول: يعلم أن يوسف حي، وأنه لا يدري أين هو؛ فهو كمد من ذلك. قال الجوهري: الكمد الحزن المكتوم؛ تقول منه كمد الرجل فهو كمد وكميد. النحاس. يقال فلان كظيم وكاظم؛ أي حزين لا يشكو حزنه؛ قال الشاعر: {قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين، قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون} قوله تعالى{قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف} أي قال له ولده{تالله تفتا تذكر يوسف} قال الكسائي: فتأت وفتئت أفعل ذلك أي ما زلت. وزعم الغراء أن }لا} مضمرة؛ أي لا تفتأ، وأنشد: أي لا أبرح؛ قال النحاس: والذي قال حسن صحيح. وزعم الخليل وسيبويه أن }لا} تضمر في القسم، لأنه ليس فيه إشكال؛ ولو كان واجبا لكان باللام والنون؛ وإنما قالوا له لأنهم علموا باليقين أنه يداوم على ذلك؛ يقال: ما زال يفعل كذا، وما فتئ وفتأ فهما لغتان، ولا يستعملان إلا مع الجحد قال الشاعر: أي ما برحت فتفتأ تبرح. وقال ابن عباس: تزال. }حتى تكون حرضا} أي تالفا. وقال ابن عباس ومجاهد: دنفا من المرض، وهو ما دون الموت؛ قال الشاعر: كذا الحب قبل اليو م مما يورث الحرضا وقال قتادة: هرما. الضحاك: باليا دائرا. محمد بن إسحاق: فاسدا لا عقل لك. الفراء: الحارض الفاسد الجسم والعقل؛ وكذا الحرض. ابن زيد: الحرص الذي قد رد إلى أرذل العمر. الربيع بن أنس: يابس الجلد على العظم. المؤرج: ذائبا من الهم. وقال الأخفش: ذاهبا. ابن الأنباري: هالكا، وكلها متقاربة. وأصل الحرض الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، عن أبي عبيدة وغيره؛ وقال العرجي: قال النحاس: يقال حرض حرضا وحرض حروضا وحروضة إذا بليي وسقم، ورجل حارض وحرض؛ إلا أن حرضا لا يثني ولا يجمع، ومثله فمن وحري لا يثنيان ولا يجمعان. الثعلبي: ومن العرب من يقول حارض للمذكر، والمؤنثة حارضة؛ فإذا وصف بهذا اللفظ ثنى وجمع وأنث. ويقال: حرض يحرض حراضة فهو حريض وحرض. ويقال: رجل محرض، وينشد: وقال امرؤ القيس: قال النحاس: وحكى أهل اللغة أحرضه الهم إذا أسقمه، ورجل حارض أي أحمق. وقرأ أنس{حُرْضا} بضم الحاء وسكون الراء، أي مثل عود الأشنان. وقرأ الحسن بضم الحاء والراء. قال الجوهري: الحَرَض والحُرُض الأشنان. }أو تكون من الهالكين} أي الميتين، وهو قول الجميع؛ وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه، وإن كانوا السبب في ذلك. قوله تعالى{قال إنما أشكو بثي} حقيقة البث في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيأ له أن يخفيها؛ وهو من بثثته أي فرقته، فسميت المصيبة بثا مجازا، قال ذو الرمة: وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه وقال ابن عباس{بثي} همي. الحسن: حاجتي. وقيل: أشد الحزن، وحقيقة ما ذكرناه. }وحزني إلى الله} معطوف عليه، أعاده بغير لفظه. }وأعلم من الله ما لا تعلمون} أي أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني سأسجد له. قاله ابن عباس. إني أعلم من إحسان الله تعالى إلى ما يوجب حسن ظني به. وقيل: قال يعقوب لملك الموت هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا، فأكد هذا رجاءه. وقال السدي: أعلم أن يوسف حي، وذلك أنه لما أخبر. ولده بسيرة الملك وعدله خلفه وقوله أحست نفس يعقوب أنه ولده فطمع، وقال: لعله يوسف. وقال: لا يكون في الأرض صديق إلا نبئ. وقيل: أعلم من إجابة دعاء المضطرين ما لا تعلمون. {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} قوله تعالى{يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه} هذا يدل على أنه تيقن حياته؛ إما بالرؤيا، وإما بإنطاق الله تعالى الذئب كما في أول القصة، وإما بإخبار ملك الموت إياه بأنه لم يقبض روحه؛ وهو أظهر. والتحسس طلب الشيء بالحواس؛ فهو تفعل من الحس، أي اذهبوا إلى هذا الذهب طلب منكم أخاكم، واحتال عليكم في أخذه فاسألوا عنه وعن مذهبه. ويروى أن ملك الموت قال له: اطلبه من هاهنا! وأشار إلى ناحية مصر. وقيل: إن يعقوب تنبه على يوسف برد البضاعة، واحتباس أخيه، وإظهار الكرامة؛ فلذلك وجههم سلى جهة مصر دون غيرها. }ولا تيأسوا من روح الله} أي لا تقنطوا من فرج الله؛ قال ابن زيد، يريد: أن المؤمن يرجو فرج الله، والكافر يقنط في الشدة. وقال قتادة والضحاك: من رحمة الله. }إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} دليل على أن القنوط من الكبائر، وهو اليأس في }الزمر} بيانه إن شاء الله تعالى. {فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين} قوله تعالى{فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز} أي الممتنع. }مسنا وأهلنا الضر} هذه المرة الثالثة من عودهم إلى مصر؛ وفي الكلام حذف، أي فخرجوا إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف قالوا{مسنا} أي أصابنا }وأهلنا الضر} أي الجوع والحاجة؛ وفي هذا دليل على جواز الشكوى عند الضر، أي الجوع؛ بل واجب عليه إذا خاف على نفسه الضر من الفقر وغيره أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع؛ كما هو واجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه؛ ولا يكون ذلك قدحا في التوكل، وهذا ما لم يكن التشكي على سبيل التسخط؛ والصبر والتجلد في النوائب أحسن، والتعفف عن المسألة أفضل؛ وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى؛ وذلك قول يعقوب مارست ما لو هوت الأفلاك من جوانب الجو عليه ما شكا
لكنها نفثة مصدر إذا جاش لغام من نواحيها غما قوله تعالى{وجئنا ببضاعة} البضاعة القطعة من المال يقصد بها شراء شيء؛ تقول: أبضعت الشيء واستبضعته أي جعلته بضاعة؛ وفي المثل: كمستبضع التمر إلى هجر. }مزجاة} صفة لبضاعة؛ والإزجاء السوق بدفع؛ ومنه قوله تعالى قوله تعالى{فأوف لنا الكيل} يريدون كما تبيع بالدراهم الجياد لا تنقصنا بمكان دراهمنا؛ هذا قول أكثرا المفسرين. وقال ابن جريج. }فأوف لنا الكيل} يريدون الكيل الذي كان قد كاله لأخيهم. }وتصدق علينا} أي تفضل علينا بما بين سعر الجياد والرديئة. قاله سعيد بن جبير والسدي والحسن: لأن الصدفة تحرم على الأنبياء. وقيل المعنى{تصدق علينا} بالزيادة على حقنا؛ قاله سفيان بن عيينة. قال مجاهد: ولم تحرم الصدقة إلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن جريج: المعنى }تصدق علينا} برد أخينا إلينا. وقال ابن شجرة{تصدق علينا} تجوز عنا؛ استشهد بقول الشاعر: {إن الله يجزي المتصدقين} يعني في الآخرة؛ يقال: هذا من معاريض الكلا؛ لأنه لم يكن عندهم أنه على دينهم، فلذلك لم يقولوا: إن الله يجزيك بصدقتك، فقالوا لفظا يوهمه أنهم أرادوه، وهم يصح لهم إخراجه بالتأويل؛ قاله النقاش وفي الحديث: استدل مالك وغيره من العلماء على أن أجرة الكيال على البائع؛ قال ابن القاسم وابن نافع قال مالك: قالوا ليوسف }فأوف لنا الكيل} فكان يوسف هو الذي يكيل، وكذلك الوزان والعداد وغيرهم، لأن الرجل إذا باع عدة معلومة من طعامه، وأوجب العقد عليه، وجب عليه أن يبرزها ويميز حق المشتري من حقه، إلا أن يبيع منه معينا صبره أو ما لا حق توفيه فيه ـ فخلى ما بينه وبينه، فما جرى على المبيع فهو على المبتاع؛ وليس كذلك ما فيه حق توفيه من كيل أو وزن، ألا ترى أنه لا يستحق البائع الثمن إلا بعد التوفية، وإن تلف فهو منه قبل التوفية. وأما أجرة النقد فعلى البائع أيضا؛ لأن المبتاع الدافع لدراهمه يقول: إنها طيبة، فأنت الذي تدعي الرداءة فانظر لنفسك؛ وأيضا فإن النفع يقع له فصار الأجر عليه، وكذلك لا يجب على الذي يجب عليه القصاص؛ لأنه لا يجب عليه أن يقطع يد نفسه، إلا أن يمكن من ذلك طائعا؛ ألا ترى أن قرضا عليه أن يفدي يده، ويصالح عليه إذا طلب المقتص ذلك منه، فأجر القطاع على المقتص. وقال الشافعي في المشهور عنه: إنها على المقتص منه كالبائع. يكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم تصدق علي؛ لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب، والله تعالى متفضل بالثواب بجميع النعم لا رب غيره؛ وسمع الحسن رجلا يقول: اللهم تصدق علي؛ فقال الحن: يا هذا! إن الله لا يتصدق إنما يتصدق من يبتغي الثواب؛ أما سمعت قول الله تعالى{إن الله يجزي المتصدقين} قل: اللهم أعطني وتفضل علي. {قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون، قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} قوله تعالى{قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه} استفهام بمعنى التذكير والتوبيخ، وهو الذي قال الله قوله تعالى{قالوا أئنك لأنت يوسف} لما دخلوا عليه فقالوا{مسنا وأهلنا الضر} فخضوا له وتواضعوا رق لهم، وعرقهم بنفسه، فقال{هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه} فتنبهوا فقالوا{أئنك لأنت يوسف} قاله ابن إسحاق. وقيل: إن يوسف تبسم فشبهوه بيوسف واستفهموا قال ابن عباس لما قال لهم{هل علمتم ما فعلتم بيوسف} الآية، ثم تبسم يوسف - وكان إذا تبسم كأن ثناياه اللؤلؤ المنظوم - فشبهوه بيوسف، فقالوا له على جهة الاستفهام{أئنك لأنت يوسف}. وعن ابن عباس أيضا: أن إخوته لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان في قرنه علامة، وكان ليعقوب مثلها شبه الشامة، فلما قال لهم{هل علمتم ما فعلتم بيوسف} رفع التاج عنه فعرفوه، فقالوا{أئنك لأنت يوسف}. وقال ابن عباس: كتب يعقوب إليه يطلب رد ابنه، وفي الكتاب: من يعقوب صفي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر - أما بعد - فإنا أهل بيت بلاء ومحن، ابتلى الله جدي إبراهيم بنمروذ وناره، ثم ابتلى أبي إسحاق بالذبح، ثم ابتلاني بولد كان لي أحب أولادي إلي حتى كف بصري من البكاء، وإني لم أسرق ولم ألد سارقا والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب ارتعدت مفاصله، واقشعر جلده، وأرخى عينيه بالبكاء، وعيل صبره فباح بالسر. وقرأ ابن كثير }إنك} على الخبر، ويجوز أن تكون هذه القراءة استفهاما كقوله وقال آخر: وقراءة الجماعة ظاهرة، والهاء في }إنه} كناية عن الحديث، والجملة الخبر. {قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} قوله تعالى{قالوا تالله لقد آثرك الله علينا} الأصل همزتان خففت الثانية، ولا يجوز تحقيقها، واسم الفاعل مؤثر، والمصدر إيثار. ويقال: أثرت التراب إثارة فإنا مثير؛ وهو أيضا على أفعل ثم أعل، والأصل أثير نقلت حركة الياء على الثاء، فانقلبت الياء ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. وأثرت الحديث على فعلت فأنا اثر؛ والمعنى: لقد فضلك الله علينا، واختارك بالعلم والحلم والحكم والعقل والملك. }وإن كنا لخاطئين} أي مذنبين من خطئ يخطأ إذا أتى الخطيئة، وفي ضمن هذا سؤال العفو. وقيل لابن عباس: كيف قالوا }وإن كنا لخاطئين} وقد تعمدوا لذلك؟ قال: وإن تعمدوا لذلك، فما تعمدوا حتى أخطؤوا الحق، وكذلك كل من أتى ذنبا تخطى المنهاج الذي عليه من الحق، حتى يقع في الشبهة والمعصية. قوله تعالى{لا تثريب عليكم اليوم} أي قال يوسف - وكان حليما موفقا{لا تثريب عليكم اليوم} وتم الكلام. ومعنى }اليوم}: الوقت. والتثريب التعيير والتوبيخ، أي تعيير ولا توبيخ ولا لوم عليكم اليوم؛ قال سفيان الثوري وغيره؛ ومنه قوله عليه السلام: (إذا زنت أمه أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها) أي لا يعيرها؛ وقال بشر: وقال الأصمعي: ثربت عليه وعربت عليه بمعنى إذا قبحت عليه فعله. وقال الزجاج: المعنى لا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة، وحق الإخوة، ولكم عندي العفو والصفح؛ وأصل التثريب الإفساد، وهي لغة أهل الحجاز. {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين} قوله تعالى{اذهبوا بقميصي هذا} نعت للقميص، والقميص مذكر، فأما قول الشاعر: فتقديره: [والقميص] درع مفاضة. قاله النحاس. وقال ابن السدي عن أبيه عن مجاهد: قال لهم يوسف{اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا} قال: كان يوسف أعلم بالله من أن يعلم أن قميصه يرد على يعقوب بصره، ولكن ذلك قميص إبراهيم الذي البسه الله في النار من حرير الجنة، وكان كساه إسحاق، وكان إسحاق كساه يعقوب، وكان يعقوب أدرج ذلك القميص في قصبة من فضة وعلقة في عنق يوسف، لما كان يخاف عليه من العين، وأخبره جبريل بأن أرسل قميصك فإن فيه ريح الجنة، وإن ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مبتلى إلا عوفي. وقال قميصه يهوذا، قال يوسف: أنا الذي حملت إليه قميصك بدم كذب فأحزنته، وأنا الذي أحمله الآن لأسره، وليعود إليه بصره، فحمله؛ حكاه السدي. }وأتوني بأهلكم أجمعين} لتتخذوا مصر دارا. قال مسروق: فكانوا ثلاثة وتسعين، ما بين رجل وامرأة. وقد قيل: إن القميص الذي بعثه هو القميص الذي قد من دبره، ليعلم يعقوب أنه عصم من الزنى؛ والقول الأول أصح، وقد روى مرفوعا من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره القشيري والله أعلم. {ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} قوله تعالى{ولما فصلت العير} أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام، يقال: فصل فصولا، وفصلته فصلا، فهو لازم ومتعد. }قال أبوهم} أي قال لمن حضر من قرابته ممن لم يخرج إلى مصر وهم ولد ولده{إني لأجد ريح يوسف} وقد يحتمل، أن يكون خرج بعض بنيه، فقال لمن بقي{إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون}. قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت ريح قميص يوسف إليه، وبينهما مسيرة ثمان ليال. وقال الحسن: مسيرة عشر ليال؛ وعنه أيضا مسيرة شهر. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: إنما أوصل ريحه من أوصل عرش. بلقيس قبل أن يرتد إلى سليمان عليه السلام طرفه. وقال مجاهد: هبت ريح فصفقت القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص، فعند ذلك قال{إني لأجد} أي أشم؛ فهو وجود بحاسة الشم. }لولا أن تفندوني} قال ابن عباس ومجاهد: لولا أن تسفهون؛ ومنه قول النابغة: أي عن السفه. وقال سعيد بن جبير والضحاك: لولا أن تكذبون. والفند الكذب. وقد أفند إفنادا كذب؛ ومنه قول الشاعر: وقال ابن الأعرابي{لولا أم تفندون} لولا أن تُضعفوا رأي؛ وقاله ابن إسحاق. والفند ضعف الرأي من كبر. وقول رابع: تضللون، قاله أبو عبيدة. وقال الأخفش: تلوموني؛ والتفنيد اللوم وتضعيف الرأي. وقال الحسن وقتادة ومجاهد أيضا: تهرمون؛ وكله متقارب المعنى، وهو راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي؛ يقال: فنده تفنيدا إذا أعجزه، كما قال: ويقال: أفند إذا تكلم بالخطأ؛ والفند الخطأ في الكلام والرأي، كما قال النابغة: أي امنعها عن الفساد في العقل، ومن ذلك قيل: اللوم تفنيد؛ قال الشاعر: ويقال: أفند فلانا الدهر إذا أفسده؛ ومنه قول ابن مقبل: {قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم} قوله تعالى{قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم} أي لفي ذهاب عن طريق الصواب. وقال ابن عباس وابن زيد: لفي خطئك الماضي من حب يوسف لا تنساه. وقال سعيد بن جبير: لفي جنونك القديم. قال الحسن: وهذا عقوق. وقال قتادة وسفيان: لفي محبتك القديمة. وقيل: إنما قالوا هذا؛ لأن يوسف عندهم كان قد مات. وقيل: إن الذي قال له ذلك من بقي معه من ولده ولم يكن عندهم الخبر. وقيل: قال له ذلك من كان معه من أهله وقرابته. وقيل: بنو بنيه وكانوا صغارا؛ فالله أعلم. {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} قوله تعالى{فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه} أي على عينيه. }فارتد بصيرا} }أن} زائدة، والبشير قيل هو شمعون. وقيل: يهوذا قال: أنا أذهب بالقميص اليوم كما ذهبت به ملطخا بالدم؛ قال ابن عباس. وعن السدي أنه قال لإخوته: قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة. وقال يحيى بن يمان عن سفيان: لما جاء البشير إلى يعقوب قال له: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام؛ قال: الآن تمت النعمة؛ وقال الحسن: لما ورد البشير على يعقوب لم يجد عنده شيئا يثيبه به؛ فقال: والله ما أصبت عندنا شيئا؛ وما خبزنا شيئا منذ سبع ليال، ولكن هون الله عليك سكرات الموت. قلت: وهذا الدعاء من أعظم ما يكون من الجوائز، وأفضل العطايا والذخائر. ودلت هذه الآية على جواز البذل والهبات عند البشائر. {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} قوله تعالى{قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} في الكلام حذف، التقدير: فلما رجعوا من مصر قالوا يا أبانا؛ وهذا يدل على أن الذي قال له{تالله إنك لفي ضلالك} القديم} بنو بنيه أو غيرهم من قرابته وأهله لا ولده، فإنهم كانوا غيبا، وكان يكون ذلك زيادة في العقوق. والله أعلم. وإنما سألوه المغفرة، لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لم يسقط المأثم عنه إلا بإحلاله. قلت: وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلما في نفسه أو ماله أو غير ذلك ظالما له؛ فإنه يجب عليه أن يتحلل له ويخبره بالمظلمة وقدرها؛ وهل ينفعه التحليل المطلق أم لا؟ فيه خلاف والصحيح أنه لا ينفع؛ فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال ربما لم تطب نفس المظلوم في التحلل منها. والله أعلم. قوله تعالى{قال سوف أستغفر لكم ربي} قال ابن عباس: أخر دعاءه إلى السحر. وقال المثنى بن الصباح عن طاوس قال: سحر ليلة الجمعة، ووافق ذلك ليلة عاشوراء. {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} قوله تعالى{فلما دخلوا على يوسف} أي قصرا كان له هناك. }آوى إليه أبويه} قيل: إن يوسف بعث مع البشير مائتي راحلة وجهازا، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده جميعا؛ فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه، أي ضم؛ ويعني بأبويه أباه وخالته، وكانت أمه قد ماتت في ولادة أخيه بنيامين. وقيل: أحيا الله له أمه تحقيقا للرؤيا حتى سجدت له، قاله الحسن؛ وقد تقدم في }البقرة} أن الله تعالى أحيا لنبيه عليه السلام أباه وأمه فآمنا به. قوله تعالى{وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} قال ابن جريج: أي سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله؛ قال: وهذا من تقديم القرآن وتأخيره؛ قال النحاس: يذهب ابن جريج إلى أنهم قد دخلوا مصر فكيف يقول{ادخلوا مصر إن شاء الله}. وقيل: إنما قال{إن شاء الله} تبركا وجزما. }آمنين} من القحط، أو من فرعون؛ وكانوا لا يدخلونها إلا بجوازه. {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم} قوله تعالى{ورفع أبويه على العرش} قال قتادة: يريد السرير، وقد تقدمت محامله؛ قد يعبر بالعرش عن الملك والملك نفسه؛ ومنه قول النابغة الذبياني: وقد تقدم. قوله تعالى{وخروا له سجدا} الهاء في }خروا له} قيل: إنها تعود على الله تعالى؛ المعنى: وخروا شكرا لله سجدا؛ ويوسف كالقبلة لتحقيق روياه، وروي عن الحسن؛ قال النقاش: وهذا خطأ؛ والهاء راجعة إلى يوسف لقوله تعالى في أول السورة قال سعيد بعد جبير عن قتادة عن الحسن: في قوله{وخروا له سجدا} - قال: لم يكن سجودا، لكنه سنة كانت فيهم، يومئون برؤوسهم إيماء، كذلك كانت تحيتهم. وقال الثوري والضحاك وغيرهما: كان سجودا كالسجود المعهود عندنا، وهو كان تحيتهم. وقيل: كان انحناء كالركوع، ولم يكن خرورا على الأرض، وهكذا كان سلامهم بالتكفي والانحناء، وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء. وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان فإنما كان تحية لا عبادة؛ قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم؛ وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة. قلت: هذا الانحناء والتكفي الذي نسخ عنا قد صار عادة بالديار المصرية، وعند العجم، وكذلك قيام بعضهم إلى بعض؛ حتى أن أحدهم إذا لم يقم له وجد في نفسه كأنه لا يؤبه به، وأنه لا قدر له؛ وكذلك إذا التقوا انحنى بعضهم لبعض، عادة مستمرة، ووراثة مستقرة لا سيما عند التقاء الأمراء والرؤساء. نكبوا عن السنن، وأعرضوا عن السنن. فإن قيل: فما تقول في الإشارة بالإصبع؟ قيل له: ذلك جائز إذا بعد عنك، لتعين له به وقت السلام، فإن كان دانيا فلا؛ وقد قيل بالمنع في القرب والبعد؛ قلت: قد جاء في المصافحة حديث يدل على الترغيب فيها، والدأب عليها والمحافظة؛ وهو قوله تعالى{وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن} ولم يقل من الجب استعمالا للكرم؛ لئلا يذكر إخوته صنيعهم بعد عفوه عنهم بقوله{لا تثريب عليكم}. قلت: وهذا هو الأصل عند مشايخ الصوفية: ذكر الجفا في وقت الصفا جفا، وهو قول صحيح دل عليه الكتاب. وقيل: لأن في دخول السجن كان باختياره بقوله قوله تعالى{وجاء بكم من البدو} يروى أن مسكن يعقوب كان بأرض كنعان، وكانوا أهل مواش وبرية؛ وقيل: كان يعقوب تحول إلى بادية وسكنها، وأن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية. وقيل: إنه كان خرج إلى بدا، وهو موضع؛ وإياه عنى جميل بقوله: وليعقوب بهذا الموضع مسجد تحت جبل. يقال: بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا، كما يقال: غاروا غورا أي أتوا الغور؛ والمعنى: وجاء بكم من مكان بدا؛ ذكره القشيري، وحكاه الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس. }من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} بإيقاع الحسد؛ قاله ابن عباس. وقيل: أفسد ما بيني وبين إخوتي؛ أحال ذنبهم على الشيطان تكرما منه. }إن ربي لطيف لما يشاء} أي رفيق بعباده. وقال الخطابي: اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون؛ كقوله {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين} قوله تعالى{رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث} قال قتادة: لم يتمن الموت أحد؛ نبي ولا غيره إلا يوسف عليه السلام؛ حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء ربه عز وجل. وقيل: إن يوسف لم يتمن الموت، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام؛ أي إذا جاء أجلي توفني مسلما؛ وهذا قول الجمهور. وقال سهل بن عبدالله التستري: لا يتمنى الموت إلا ثلاث: رجل جاهل بما بعد الموت، أو رجل يفر من أقدار الله تعالى عليه، أو مشتاق محب للقاء الله عز وجل. قوله تعالى{فاطر السماوات والأرض} نصب على النعت للنداء، وهو رب، وهو نداء مضاف؛ والتقدير: يا رب! ويجوز أن يكون نداء ثانيا. والفاطر الخالق؛ فهو سبحانه فاطر الموجودات، أي خالقها ومبدئها ومنشئها ومخترعها على الإطلاق من غير شيء، ولا مثال سبق؛ وقد تقدم هذا المعنى في }البقرة} مستوفى؛ عند قوله {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} قوله تعالى{ذلك من أنباء الغيب} ابتداء وخبر. }نوحيه إليك} خبر ثان. قال الزجاج: ويجوز أن يكون }ذلك} بمعنى الذي! }نوحيه إليك} خبره؛ أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك؛ يعني هو الذي قصصنا عليك يا محمد من أمر يوسف من أخبار الغيب }نوحيه إليك} أي نعلمك بوحي هذا إليك. }وما كنت لديهم} أي مع إخوة يوسف }إذ أجمعوا أمرهم} في إلقاء يوسف في الجب. }وهم يمكرون} أي بيوسف في إلقائه في الجب. وقيل{يمكرون} بيعقوب حين جاؤوه بالقميص ملطخا بالدم؛ أي ما شاهدت تلك الأحوال، ولكن الله أطلعك عليها. {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} قوله تعالى{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} ظن أن العرب لما سألته عن هذه القصة وأخبرهم يؤمنون، فلم يؤمنوا؛ فنزلت الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي ليس تقدر على هداية من أردت هدايته؛ تقول: حرص يحرص، مثل: ضرب يضرب. وفي لغة ضعيفة حرص يحرص مثل حمد يحمد. والحرص طلب الشيء باختيار. {وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين} قوله تعالى{وما تسألهم عليه من أجر} }من} صلة؛ أي ما تسألهم جعلا. }إن هو} أي ما هو؛ يعني القرآن والوحي. }إلا ذكر} أي عظة وتذكرة }للعالمين}. {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} قال الخليل وسيبويه: هي }أي} دخل عليها كاف التشبيه وبنيت معها، فصار في الكلام معنى كم، وقد مضى في }آل عمران} القول فيها مستوفى. ومضى القول في آية }السماوات والأرض} في }البقرة}. وقيل: الآيات آثار عقوبات الأمم السالفة؛ أي هم غافلون معرضون عن تأمل. وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد }والأرض} رفعا ابتداء، وخبره. }يمرون عليها}. وقرأ السدي }والأرض} نصبا بإضمار فعل، والوقف على هاتين القراءتين على }السماوات}. وقرأ ابن مسعود{يمشون عليها}. {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} قوله تعالى{وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} نزلت في قوم أقروا بالله خالقهم وخالق الأشياء كلها، وهم يعبدون الأوثان؛ قاله الحسن، ومجاهد وعامر الشعبي وأكثر المفسرين. وقال عكرمة هو قوله قلت: وقد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام المسلمين؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقيل: نزلت هذه الآية في قصة الدخان؛ وذلك أن أهل مكة لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا {أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون} قوله تعالى{أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله} قال ابن عباس: مجللة. وقال مجاهد: عذاب يغشاهم؛ نظيره. {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} قوله تعالى{قل هذه سبيلي} ابتداء وخبر؛ أي قل يا محمد هذه طريقي وسنتي ومنهاجي؛ قاله ابن زيد. وقال الربيع: دعوتي، مقاتل: ديني، والمعنى واحد؛ أي الذي أنا عليه وأدعو إليه يؤدي إلى الجنة. }على بصيرة} أي على يقين وحق؛ ومنه: فلان مستبصر بهذا. }أنا} توكيد. }ومن اتبعني} عطف على المضمر. }وسبحان الله} أي قل يا محمد{وسبحان الله}. }وما أنا من المشركين} الذين يتخذون من دون الله أندادا. {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون} قوله تعالى{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} هذا رد على القائلين قوله تعالى{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا} إلى مصارع الأمم المكذبة لأنبيائهم فيعتبروا. }ولدار الآخرة خير} ابتداء وخبره. وزعم الفراء أن الدار هي الآخرة؛ وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ، كيوم الخميس، وبارحة الأولى؛ قال الشاعر: أي عرفانا يقينا؛ واحتج الكسائي بقولهم: صلاة الأولى؛ واحتج الأخفش بمسجد الجامع. قال النحاس: إضافة الشيء إلى نفسه محال؛ لأنه إنما يضاف الشيء إلى غيره ليتعرف به؛ والأجود الصلاة الأولى، ومن قال صلاة الأولى فمعناه: عند صلاة الفريضة الأولى؛ وإنما سميت الأولى لأنها أول ما صلي حين فرضت الصلاة، وأول ما أظهر؛ فلذلك قيل لها أيضا الظهر. والتقدير: ولدار الحال الآخرة خير، وهذا قول البصريين؛ والمراد بهذه الدار الجنة؛ أي هي خير للمتقين. وقرئ{وللدار الآخرة}. وقرأ نافع وعاصم ويعقوب وغيرهم. }أفلا تعقلون} بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين} قوله تعالى{حتى إذا استيأس الرسل} تقدم القراءة فيه ومعناه. }وظنوا أنهم قد كذبوا} وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم. وهذا الباب عظيم، وخطره جسيم، ينبغي الوقوف، عليه لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم. المعنى: وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالا ثم لم نعاقب أممهم بالعذاب. }حتى إذا استيأس الرسل} أي يئسوا من إيمان قومهم. }وظنوا أنهم قد كذبوا} بالتشديد؛ أي أيقنوا أن قومهم كذبوهم. وقيل المعنى: حسبوا أن من آمن بهم من قومهم كذبوهم، لا أن القوم كذبوا، ولكن الأنبياء ظنوا وحسبوا أنهم يكذبونهم؛ أي خافوا أن يدخل قلوب أتباعهم شك؛ فيكون }وظنوا} على بابه في هذا التأويل. وقرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو عبدالرحمن السلمي وأبو جعفر بن القعقاع والحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعاصم وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف }كذبوا} بالتخفيف؛ أي ظن القوم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب، ولم يصدقوا. وقيل: المعنى ظن الأمم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم. وفي رواية عن ابن عباس؛ ظن الرسل أن الله أخلف ما وعدهم. وقيل: لم تصح هذه الرواية؛ لأنه لا يظن بالرسل هذا الظن، ومن ظن هذا الظن لا يستحق النصر؛ فكيف قال{جاءكم نصرنا}؟ ! قال القشيري أبو نصر: ولا يبعد إن صحت الرواية أن المراد خطر بقلوب الرسل هذا من غير أن يتحققوه في نفوسهم؛ وذكر الثعلبي والنحاس عن ابن عباس قال: كانوا بشرا فضعفوا من طول البلاء، ونسوا وظنوا أنهم أخلفوا؛ ثم تلا {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} قوله تعالى{لقد كان في قصصهم عبرة} أي في قصة يوسف وأبيه وإخوته، أو في قصص الأمم. }عبرة} أي فكرة وتذكرة وعظة. }لأولي الألباب} أي العقول. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: إن يعقوب عاش مائة سنة وسبعا وأربعين سنة، وتوفي أخوه عيصو معه في يوم واحد، وقبرا في قبر واحد؛ فذلك قوله{لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} إلى آخر السورة. }ما كان حديثا يفترى} أي ما كان القرآن حديثا يفترى، أو ما كانت هذه القصة حديثا يفترى. }ولكن تصديق الذي بين يديه} أي ولكن كان تصديق، ويجوز الرفع بمعنى لكن هو تصديق الذي بين يديه أي ما كان قبله من التوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى؛ وهذا تأويل من زعم أنه القرآن. }وتفصيل كل شيء} مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام، والشرائع والأحكام. }وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.
|